التقييم 5/5
كانت ليلة السبت تمثل فاصلاً محبباً للأطفال في حياتهم المنضبطة الصارمة. فقد كان والدهم -الذي كان يجيد اللغات الروسية والفرنسية والألمانية والإنجليزية بطلاقة إلى جوار البولندية- يمضي الفترة من 7 إلى 9 مساءاً في القراءة بصوت مسموع لبعض الكتب مثل “دافيد كوبرفيلد” ويترجم ما يقرأه مباشرة إلى البولندية.
كانت الأيام والأمسيات مخططة بعناية بين فترات للاستذكار وفترات للتمارين الرياضية. وقد استعادت “مانيا” ذكريات تلك الفترة قائلة أن أبسط الحوارات اليومية كانت تنطوي على دروس في الأخلاق أو في المواد الدراسية، وأن مجرد التنزه سيراً على الأقدام في المناطق الريفية كان لغرض شرح ظاهرة علمية أو سر من أسرار الطبيعة، وكان غروب الشمس مدخلاً لحديث حول التحركات الفلكية.
يبدأ الكتاب بمشهد نقل جثمان “ماري كوري” وزوجها “بيير كوري” إلى البانثيون (مقبرة العظماء) بحضور الرئيس الفرنسي “فرانسوا ميتران”، لتكون أول وأخر إمرأة (حتى الآن) تُدفن في المقبرة.
من المعروف عن “ماري كوري” هي تلك المرأة الاسطورية التي حصلت مع زوجها على جائزة نوبل في الفيزياء لاكتشافهما الراديوم (رغم أن اكتشافهم ظاهرة للانبعاث الإشعاعي كان هو الأساس) ثم حصلت منفردة على جائزة نوبل في الكيمياء لتحضيرها الراديوم كيميائياً ثم حصلت ابنتها أيضاً على جائزة نوبل في الكيمياء لتحضير الراديوم صناعياً. ولكن خلف الكواليس حياة مليئة بالفقر والحرمان والعنصرية، حياة مليئة بالآلام والفشل والحب.
“ماريا سكلادوفسكا كوري” أو “مانيا” هي الأخت الصغرى لثلاثة أطفال من أسرة بولندية فقيرة لوالد فيزيائي محب للعلوم. ولدت عام 1867 وهو نفس العام الذي نشر فيه “كارل ماركس” الجزء الأول من كتابه الأشهر “رأس المال” ونفس السنة أيضاً التي سجل فيها “ألفريد نوبل” أختراعه (الديناميت) وهي نفس فترة الاحتلال الروسي لبولندا، وساد ذلك الوقت السيطرة الروسية على المدارس البولندية وإجبارهم على تدريس التاريخ الروسي والتحدث باللغة الروسية وأيضاً التعامل بالعملة الروسية. ولكن استطاع الوالد -وهو فيزيائي بارع لم يأخذ فرصته- أن يزرع في أبنائه حب العلوم والثقافة. فعلى سبيل المثال كانت “ماري” وهي في عمر الـ 18 تتحدث ثلاث لغات وتقرأ في الطب والرياضيات والفيزياء.
يرصد الكتاب رحلة كفاح “ماري” طوال عمرها وقصة صعود أشهر عالمة في تاريخ العلوم حتى الآن في وقت لم يكن للنساء أي دور في المجتمع إلا الزواج وتربية الأبناء فقط. ويسرد لنا أيضاً رحلة اكتشافها لظاهرة “الانبعاث الإشعاعي” واكتشافها لعنصر “الراديوم والبولونيوم”. ومن سيقرأ الكتاب سيعرف سبب الاسم “هوس العبقرية”، فـ “ماري” بالفعل كان لديها هوس بالعلوم وأدى هذا لأن تكون أول سيدة في تاريخ “السوربون” تحصل على درجة علمية في الفيزياء والرياضيات وأول سيدة تحصل على منصب أستاذ وأول سيدة تحصل على جائزة نوبل، بل وأول سيدة تحصل على جائزتين نوبل في فرعين مختلفين من العلوم (الفيزياء والكيمياء).
كان كل الأطفال في أسرة “سكلادوفسكي” أذكياء متفوقين في المدرسة إلا أن “مانيا” كانت أكثرهم ذكاء. وعندما كانت في الرابعة من عمرها شاهدت كيف تجاهد أختها الكبرى “برونيا” لتقرأ في كتابها، فما كان منها إلا أن التقطت الكتاب وقرأت بصوت مسموع الجملة الأولى دون أدنى تعلثم. ولما رأت الدهشة تعلو وجوه من حولها أخذت في البكاء وقد أيقنت أنها قد اقترفت خطيئة لا تغتفر “لم أكن أقصد ذلك” قالتها “مانيا” بأنين وحزن “لكنها كانت سهلة جداً”. وبعد عدة سنوات قرأ أحد معارفهم قصيدة شعر على مسامعها فطلب منه نسخة منها. قام هذا الشخص باختبارها فقال لها إنه سيقرأها لها مرة أخرى، وحيث إنه من المفترض أنها تتمتع بذاكرة جيدة فإنها بلا شك ستحفظها عن ظهر قلب. قرأ الشخص القصيدة، وانتحت “مانيا” جانباً في إحدى الغرف لتعرد بعد نصف ساعة وقد كتبت القصيدة بالتمام والكمال.
كانت “ماري” متفوقة دراسياً منذ صغرها وتخرجت من المدرسة وهي الأولى وحصلت على المدالية الذهبية كأفضل طالبة عام 1883م، واستطاع والدها أن يضمن لها مكان في أحد المدارس العاليا -تحت رقابة روسية شديدة- وكانت أصغر من أقرانها في الفصل، ورغم العنصرية التي واجهتها استطاعت أن تتخرج بتفوق. وظلت تعمل لمدة ثمان سنوات حتى تستطيع الالتحاق بالسوربون لتدرس الفيزياء. وهناك قابلت حب حياتها “بيير كوري”. وكان “بيير” هو من ساعدها في بحثها العلمي عن طريق تدريبها على أجهزة القياس الدقيقة (وهي أجهزة كان له السبق في إحتراعها) وتعليمها ما يتعلق بالمجال المغناطسي، بل هو من حدد لها مجال البحث.
كانت تتصدر “ماري كوري” وزوجها “بيير كوري” الترشيح لجائزة نوبل منذ دورتها الثانية ولكن العنصرية تجاه السيدات من المجتمع العلمي كانت دائماً تحول دون الحصول عليها، وحتى عندما قرروا منحهم جائزة نوبل، كانت ستكون باسم زوجها فقط ولم يذكروا اسمها، بل أن في ديباجة فوزهم بالجائزة كان يُشار إليها بـ “مدام كوري” رغم انها حاصلة على درجة الأستاذية مثل زوجها. ولكن تصميم “بيير” ورفضه للحصول على الجائزة إلا إذا تضمنت اسم “ماري” هو ما شكل عامل ضغط على “الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم” حتى وافقوا على منحها جائزة نوبل مناصفة مع زوجها في الفيزياء عام 1903م. وبعد ذلك طُِلب من زوجها أن يُلقي خطاب وليست هي (رغم أن هي من اكتشفت ظاهرة الإنبعاث الإشعاعي وعنصر الراديوم)، ولكن لم يفوت زوجها الفرصة وأعطاها حقها في خطابه أمام الجمعية ونسب لها الفضل الرئيسي وليس هو. وتكرر ذلك مرة أخرى عند حصول ابنتها “أيرين كوري”، حيث كانوا يشيرون فقط إلى زوجها “فريدريك” ولكن فريدريك أعطى أيرين حقها ولم يغفل عن ذكر “ماري كوري” التي لولاها لما كانوا توصلوا لشيء.
وصلت شهرة “ماري كوري” لأن تطبع صورتها على طوابع البريد والعملات الفرنسية من فئة الـ 500 فرنك وشوارع تحمل اسمها، حتى أطلق اسمها على أحد أنواع السيارات. بل أن ظهرت حُمى “الراديوم” بشكل خادع على انه يشفي الأمراض، وسارعت شركات مساحيق التجميل في التسويق لمنتجاتها التي تحتوي على الراديوم وأنتشرت المنتجات التي تحتوي على الراديوم التي تطيل العمر، وتزيد الفحولة الجنسية وتقوي شعر الرأس وتشفي من السرطان. بل أن شهرة “النشاط الإشعاعي والراديوم” طغت على شهرة “الكهرباء” في معرض باريس العالمي 1900م.
كانت وفاة “بيير” (زوج ماري) علامة فاصلة في حياتها، فازداد اكتئابها وانعزلت أكثر عن بناتها (أيرين وإيف) أكثر وانعمست في العمل بشكل محموم وهو ما أدى إلى تحضير عنصر الراديوم كيميائياً وحصولها على جائزة نوبل في الكيمياء منفردة.
ثم يبدأ الكتاب بسرد قصة الحب بين “ماري كوري” و”بول لانجفين” وما فعلته الصحافة اليمينية المتطرفة خاصة مع تزامن هزيمة فرنسا من روسيا في الحرب وصعود النازية والتعصب ضد الأجانب. ودول ماري كوري وابنتيها في الحرب العالمية الأولى في مساعدتهم في استخدام “الأشعة السينية” للشكف على الجنود وإخراج طلقات الرصاص من أجسادهم.
نعم لقد كانت إنجازات ماري كوري وحياتها شيئاً عظيماً. فهي لم تتأثر بتشكيك زملائها العلماء وعاشت في عالم يضع قواعده الرجال. لقد عاشت حياة تراجيدية رائعة. وبكلماتها الشخصية:
إنني من هؤلاء الذين يعتقدون أن في العلم جمال رائع. إن العالم في معمله ليس مجرد عمل فني، إنه أيضاً طفل وُضِع أمام خاصية طبيعية أذهلته مثل قصة خيالية. ويجب ألا نسمح بالاعتقاد أن كل التقدم العلمي يمكن أن يُختزل لمجرد آلية، ولا أعتقد أن روح المخاطر ستختفي في عالمنا. فإذا رأيت أي شيء مليء بالحيوية حولي فإنه بالضبط روح المخاطرة التي تبدو غير قابلة للهدم.
توفت “ماري كوري” و”أيرين كوري” و”فريدريك” زوج أيرين وكثير من العاملين في مجال النشاط الإشعاعي بسبب “الراديوم”. رغم معرفتهم بالتأثير الإشعاعي عليهم فلقد اختاروا أن يتجاهلوا ذلك عمداً. فقد أعتبروه “المرض الهني” الذي صاحب آل كوري. ومازالت حتى الآن مذكرات آل كوري تحتوي على نسبة إشعاع!
الكتاب مكتوب بلغة أديبة سهلة وممتعة. أنصح بقرائته بشدة لكل شاب وشابة (بل ويجب أن تُدرّس قصة حياتها في المراحل الابتدائية في مدارسنا) لتكون رمز للكفاح الإنساني العظيم في تحقيق أهدافه.
إذا كنت من المحبين للمسلسل الأمريكي “نظرية الانفجار الكبير The Big Bang Theory”، ربما ستجد تشابه بين شخصية “بيير وماري كوري” في “شيلدون كوبر وإيمي فاولر”.
وأخيراً، الغلاف ليس له أي علاقة بالكتاب أو موضوعه، فهو يُظهر فتاة وتيليسكوب. ولا أعرف ما علاقة هذا بماري كوري!
Leave a Comment